النازحون داخلياً في محافظة مأرب أنموذجاً
✍️إبراهيم مارش – صحفي
تأتي الصحة النفسية كجزء أساسي من صحة الإنسان ويعتبر النازحون في محافظة مأرب شرق اليمن فئة معرضة للكثير من التحديات النفسية نتيجة لظروفهم القاسية والتي تتضمن الفقر، الخوف، القلق، والفقدان. في محافظة مأرب، يواجه النازحون تحديات جمّة تؤثر على صحتهم النفسية بشكل كبير. الوضع النفسي للنازحين في المخيمات يعكس معاناة عميقة، حيث يعيش الكثيرون في ظروف قاسية تفتقر إلى الأمان والاستقرار، مما يؤدي إلى مشاكل نفسية متعددة مثل الاكتئاب، اضطرابات النوم، والقلق المستمر بشأن مصيرهم ومستقبلهم.[1]
نازحة في مأرب تبحث عن عودة من نوع آخر
"ما يهمني لو أعيش بقية عمري أني وعيالي الستة وزوجي في غرفة أو في خيمة حتى..، أهم شي عندي أن زوجي يستعيد صحته ويرجع له عقله وتبتعد عنه الأوهام والشكوك، ويخلينا نعيش بسلام، وننسى الأيام السوداء وحياة الجحيم اللي نعيشها"
هكذا تلخص أم مسعود (اسم مستعار) ذات ال35 عاماً، قصة معاناتها هي وأبناؤها، بعد أن مرت بتجارب نزوح متكررة وقاسية إلى محافظتي الجوف ، ثم إلى محافظة مأرب ( شرقي اليمن ) إثر تصاعد الأعمال العسكرية وتوسع نطاق أحداث الحرب التي تشهدها البلاد منذ العام 2014 م والتي أدت إلى نزوح ما يزيد عن أربعة ملايين ونصف من اليمنيين وفقا لتقديرات الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، تأوي مأرب منهم أكثر من ملونين وثلاثمائة ألف نازح، يمثلون أكثر من ثلثي النازحين في المحافظات التي تخضع للحكومة الشرعية المعترف بها وفق تقديرات المنظمات الإغاثية.
تروي أم مسعود تفاصيل قصتها قائلة: " نزحنا بسبب الحرب أول مرة إلى محافظة الجوف وعشنا هناك ثلاث سنوات في غرفة، ننام في طرفها ونطبخ في الطرف الآخر، وهناك أصيب زوجي الإصابة الأولى وتعالج، وبعدما دخل الحوثي الجوف نزحنا إلى مأرب، استأجرنا غرفتين لمدة شهرين وبعدها طردونا منها لأننا ما قدرنا ندفع الايجار، بعدها اتسلفنا فلوس من بعض المعارف ودبرنا مبلغ وبنينا لنا غرفة ومطبخ صغير وحمام في المخيم وباقي علينا ديون أكثر من 400 ألف ".
أوضحت أم مسعود كيف تغيرت معاملة زوجها لها ولبناته وولده الأكبر مسعود البالغ من العمر 12 عاما، بعد أن أصيب مرة أخرى، بعد نزوحهم الثاني إلى مأرب، ولم تتم معالجته بشكل كامل، وبقيت في جسده بعض الشظايا وربما تراجعت بسببها صحته النفسية بشكل أسوأ، ليبدأ يمنعهم من الخروج ويضربهم بعنف أحيانا.
وقصة أم مسعود تعد واحدة من مئات القصص المشابهة، حيث كشفت دراسة حديثة أجراها المركز القومي للدراسات الاستراتيجية في محافظة مأرب عن تعرض 290 ألف أسرة نازحة في محافظة مأرب لآثار نفسية متفاوتة، بسبب الحرب ومخاطر النزوح ".[2]
وبالرغم من معاناة هذه الأسرة في جوانب تلبية احتياجاتها الأساسية من المأوى والغذاء والمياه النظيفة، غير أن معاناتها الرئيسية والمستمرة تمثلت في غياب التدخلات الإنسانية المتعلقة بخدمات الصحة النفسية المتخصصة والمتكاملة.
وضع الصحة النفسية في محافظة مأرب
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يعاني نحو 80٪ من النازحين في اليمن من اضطرابات نفسية نتيجة للصراع المستمر. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الأطفال النازحون من الصعوبات النفسية والاجتماعية، حيث يفتقدون الوصول إلى التعليم والخدمات الأساسية، مما يؤثر سلباً على تطورهم النفسي والاجتماعي.
تُظهر الإحصائيات أن حوالي 50 في المائة من النساء اللواتي يزرن العيادات المتنقلة يُبدين تدهورًا في الصحة النفسية بسبب تفكك الأسرة وتغير سلوك الأزواج بعد النزوح. الرجال أيضًا يعانون من الضغوط النفسية بسبب عدم قدرتهم على القيام بدورهم التقليدي كمعيلين لأسرهم.[3]
يقول الدكتور مهيوب أحمد المخلافي الأخصائي النفساني ومنسق الصحة النفسية بمكتب الصحة بمحافظة مأرب " إن الإصابات الجسدية في الحرب قد تسبب صدمات نفسية لها أبعاد وتأثيرات مختلفة، وفي حالة تكرار الإصابة يحدث ما يسمى بكرب ما بعد الصدمة، واضطرابات الهلع والخوف، هذا على المستوى الشخصي، أما على مستوى الأسرة فإن الشخص الذي يتعرض لإصابة تجعله يشعر معها بالعجز فإنه يتحول الى حالة عدائية لا إرادية سواء كان على نفسه أو على أفراد أسرته أو على المجتمع".
من الواضح أن هناك تدني كبير في مستوى الخدمات الطبية النفسية في اليمن عموما، وفي محافظة مأرب على وجه الخصوص، حيث تبين تقارير منظمة الصحة العالمية أن نظام رعاية الصحة النفسية في اليمن يعاني من نقص في التمويل وانخفاض الاهتمام من قبل صانعي القرار وندرة المهنيين في مجال الصحة النفسية بالإضافة إلى وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بمرض الصحة النفسية.
كما أن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يحتاجون إلى الرعاية النفسية بما في ذلك الأدوية، يجب أن يدفعوا تكاليف العلاج مما يضطر كثير منهم إلى التوقف عن تناول العلاج لعدم قدرتهم على شرائه، كما هو حال موضوع قصتنا " أبو مسعود " حيث تؤكد لنا زوجته أنه تحسن كثيراً خلال الاسبوعين التي تناول فيها الأدوية التي قررها له الطبيب النفسي وتقول: "رجع زوجي لحالته الطبيعية وكان يعاملنا بطيبة مثلما كان يعاملنا قبل إصابته ولكن عندما كمّل العلاج تدهورت حالته ورجعت له الأوهام والشكوك ورجع يمنعنا نخرج من البيت ،وما قدرنا نشتري له العلاج الذي يكفيه لفترة الشهرين حسب ما حدد له الطبيب والسبب أن ما معانا قيمة العلاج، "يكلف 35 ألف في الشهر ".
بشكل أعمق تضعنا أم مسعود في صورة من معاناتها المتكررة مع زوجها قائلة: "قبل شهرين عاد ابو مسعود إلي البيت وانا وبنتي الصغيرة أمام البيت قادمات من منزل جارتنا، ومن غضبه علينا مسك يد البنت الصغيرة ورمى بها إلى داخل البيت بقوة واكتسرت رجلها وتأثرت يدها ولا زالت تعاني منها إلى اليوم، وبعدها تشنج واصطرع "، تواصل حديثها "وديناه المستشفى وطلبوا مننا نعمل له جهاز رنين مغناطيسي للرأس في مستشفى تجاري وهذا يكلف مبلغ كبير، ومن أين لنا؟ ومرتبه الشهري لا يكفي لتغطية مصاريف البيت ولا تعليم الأولاد وما يجي الراتب إلا كل ثلاثة أشهر".
تتطلب هذه الظروف التحدياتية جهودًا مكثفة لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للنازحين في محافظة مأرب. يجب أن تكون الخدمات النفسية متاحة للنازحين بشكل عاجل وفعال، حيث يمكن أن تشمل هذه الخدمات الاستشارات النفسية والدعم النفسي الجماعي وورش العمل لتعزيز التحمل النفسي.
الجهود المبذولة وحجم الاحتياجات في قطاع الصحة النفسية في محافظة مأرب
الحاجة إلى الدعم النفسي في مأرب ملحة ولا تقل أهمية عن الاحتياجات الصحية والمعيشية الأخرى. الدعم النفسي يُعد ركيزة أساسية لتحسين الصحة العامة والرفاهية، ويساعد في تمكين النازحين من التعامل مع الصدمات والتحديات اليومية.
بالنسبة للجهود الحالية، تقوم منظمات مثل أطباء بلا حدود بتقديم الرعاية الصحية الأساسية والدعم النفسي للنازحين من خلال عيادات متنقلة.[4] كما تعمل هذه المنظمات على توزيع المعلومات حول الخدمات المتاحة وتحديد الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لتوجيههم نحو الدعم الإنساني. مع ذلك، تظل الحاجة إلى المزيد من الموارد والدعم النفسي المتخصص قائمة لمواجهة التحديات الهائلة التي يفرضها النزوح والصراع المستمر.[5]
واعتبر رئيس منظمة حماية للتوجه المدني في محافظة مأرب الدكتور علي التام أن ما تقدمه المنظمات الإنسانية من برامج الحماية بشكل عام ضعيف جداً ولا يغطي ما نسبته 10 في المئة من الاحتياجات في مجال الحماية فيما يخص الخدمات الطبية المنقذة للحياة، وان هناك فجوة كبيرة في جوانب الحماية الأخرى وخصوصاً حماية الطفل والدعم النفسي.
وبالرغم من حجم المعاناة التي تكابدها أم مسعود إلا أنها لم تفقد الأمل فهي تحاول البحث عمن يمكنه أن يساعد زوجها في علاجه إلى أن يشفى سواء من جهة حكومية أو أي منظمة أو فاعل خير.
خلال حديثنا مع الدكتور المخلافي طلب منا أن نوصل رسالته إلى محافظ مأرب، سلطان العرادة، ، والى المنظمات الإنسانية الفاعلة ويناشدهم بضرورة إيجاد مصحة نفسية إسعافية في المحافظة، وأضاف “الوضع أصبح أكثر من ضرورة، وأعداد المرضى النفسيين في ازدياد مستمر نتيجةً لطول فترة الحرب وتدهور الوضع الإقتصادي والبطالة وغلاء المعيشة، وعدم وجود مصحة نفسية في مأرب قد يؤدي إلى تفاقم هذه الحالات وتنتقل إلى حالات فصام وارتياب واكتئاب ويصبح المريض في البيت سبباً لنقل حالته النفسية لأفراد أسرته وهذا يسمى المرض التحولي".
وكشف المخلافي، عن عدد المترددين على المرافق الطبية التي تقدم خدمات الرعاية النفسية في المحافظة والذي يتجاوز 18 ألف متردد سنوياً، خلافاً للأعداد التي تتلقى العلاج النفسي خارج المحافظة خوفا ًمن وصمة العار الاجتماعية وانكشاف حالتهم لدى أسرهم ومن هم حولهم.
ويرجع الدكتور المخلافي سبب قصور الخدمات الطبية النفسية في مأرب الى قلة عدد الكوادر من الاخصائيين النفسيين الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة اخصائيين، يقدمون خدماتهم في ثلاثة مرافق حكومية هي، هيئة مستشفى مأرب ومستشفى كرى ومستشفى الحصون، وهؤلاء يقدمون خدماتهم لثلاثة مليون نسمة يسكنون محافظة مأرب، أي بمعدل طبيب نفسي لكل مليون نسمة تقريباً، في الوقت الذي ينص دليل منظمة الصحة العالمية، والحديث للدكتور المخلافي "على أنه يجب أن يتوفر لكل مائة شخص طبيب نفسي في أوقات الحروب والكوارث".
ويرى المخلافي أن ما تقدمه المنظمات من خدمات رعاية ودعم نفسي عبارة عن جهد فردي يقدم بشكل غير صحيح بسبب انعدام وجود مصحة نفسية متخصصة والتي ستمثل في حال وجودها المرجع الذي سيصب فيه دعم المنظمات وتحال إليها مختلف الحالات من الميدان ومن مختلف المرافق كما هو الحال في المحافظات التي لديها مصحات نفسية.
وَيتَوافَق رأي الدكتور علي التام مع رأي الدكتور المخلافي فيما يخص احتياج مأرب لمصحة نفسية. لافتاً إلى أن الإحصاءات الرسمية تعتبر مؤشر على ذلك، حيث تم إحالة ما يقارب 70 حالة إلى خارج المحافظة خلال الشهرين الماضيين يحتاجون إلى الرقود في مصحات نفسية، وفيما يتعلق بتدخلات المنظمات، يؤكد الدكتور التام أنها بسيطة وليس لها الأثر المأمول، حيث لم تسع لتوفير اخصائيين نفسيين مع علمها بحاجة المحافظة الملحة لعدد من الاخصائيين والفنيين في هذا المجال.
على الرغم من الجهود التي تبذلها بعض المنظمات والهيئات في مأرب، إلا أن الوصول إلى الدعم النفسي لا يزال محدودًا وغير كافٍ. ينبغي زيادة الجهود لتعزيز التوعية بأهمية الصحة النفسية وتقديم الدعم اللازم للنازحين، بالإضافة إلى تعزيز التعاون بين المنظمات والجهات المعنية لضمان توفير الخدمات النفسية بشكل شامل وفعّال للنازحين في محافظة مأرب.
وفي الختام، تمثل قصة أم مسعود صورة حية لمعاناة مئات الآلاف من النازحين الذين يواجهون تحديات لا حصر لها في حياتهم اليومية. هذه القصة تسلط الضوء على الفجوات الكبيرة في خدمات الصحة النفسية في مناطق النزوح، وتدعو إلى ضرورة تكثيف الجهود الإنسانية لتلبية الاحتياجات النفسية والصحية للنازحين. إن توفير الرعاية النفسية المتكاملة والتدخلات الطبية المتخصصة ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة حيوية لضمان إعادة بناء حياة كريمة لهؤلاء الأفراد وعائلاتهم. على المجتمع الدولي، المنظمات الإنسانية، والحكومة أن تتكاتف لسد هذه الفجوة، وضمان أن يجد كل نازح الدعم الذي يحتاجه ليعيش بسلام وأمان. يبقى الأمل معقودًا على مستقبل أفضل تتحقق فيه العدالة الإنسانية، ويعود فيه الاستقرار والطمأنينة إلى حياة كل من نزح عن دياره قسرًا.
المراجع:
[1] Mental health: The neglected crisis in Yemen’s frontline city - MSF Yemen: https://msf.org.uk/article/mental-health-neglected-crisis-yemens-frontline-city
[2] دراسة حديثة تؤكد أن 290 ألف أسرة نازحة تعاني من آثار نفسية بسبب الحرب والنزوح - قناة بلقيس على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=vpNcI2kwxc4
[3] Mental health: The neglected crisis in Yemen’s frontline city - MSF Yemen: https://msf.org.uk/article/mental-health-neglected-crisis-yemens-frontline-city
[4] Health needs grow for people in former safe haven of Marib - MSF Yemen: https://www.msf.org/health-needs-grow-former-safe-haven-marib-yemen
[5] Displaced Yemenis struggle to access aid as fighting intensifies in Marib – UN Yemen: https://yemen.un.org/en/160014-displaced-yemenis-struggle-access-aid-fighting-intensifies-marib