معاناة أطفال المعتقلين والمخفيين
بقلم: مها يحيى - ناشطة حقوقية
في زمن الحروب والصراعات، تتشابك خيوط الحياة بألوانها المختلفة، ما بين الأمل والألم، والفرح والحزن. وفي قلب هذا النسيج المعقد، تبرز قصص إنسانية تلامس القلب، تحكي عن معاناة الأبرياء الذين يدفعون ثمناً باهظاً لأحداث لم يختاروها. قصة سليم ريبان، طفل يمني، هي واحدة من هذه القصص التي تستحق أن تُروى.
في أعماق جبال حجور اليمنية، حيث تتربع الطبيعة على أشجارها وترتفع الجبال شاهقة، ينبض قلب طفل يدعى سليم ريبان. ولد في زمن الحرب، حيث تحوم الأماني بين الشجون والألم، ويترقب الطفل أمورًا لا يجب أن يترقبها.
استهل الطفل سليم يحيى ريبان حياته باكياً كحال كل مولود لكن بكاء سليم لم يكن كبكاء الأطفال، كان إيذانا بحزن ممتد لا يعلم نهايته، حزن على غياب أب خرج باحثاً عن قابلة لأمه التي داهمتها الولادة تحت وقع القذائف ودوي المدافع وزخات الرصاص في الحرب التي تزامنت مع ولادته في مسقط رأسه في منطقة حجور بمحافظة حجة (شمال شرقي العاصمة صنعاء)، خلال شهر مارس عام 2019، ولم يعد حتى اللحظة.
خرج الأب يخوض الخطر ويغالب أجواء الحرب الملبدة بالموت والدمار يتراءى له خيال طفل قادم يزرع البسمة التي غابت، والفرحة التي اضمحلت ويعيد الأمل الذي يدافع اليأس، لكن الولادة حياة والحرب لا تصنع غير الموت؛ فقد اختطف الحوثيون الأب الذي لم يفلح في إقناعهم بخطورة وضع زوجته وحاجتها له في لحظة تصارع فيها آلام المخاض، ليغيب عن لحظة الميلاد وتغيب معه فرحة الأسرة بمولودها الجديد.
لم ير الطفل الذي جاوز الخامسة من عمره أباه الذي يسمع عنه أحاديث تثير الحيرة والتساؤل أين هو؟ ولماذا لم يعد؟ وكيف تبدو ملامحه التي تحملها صورة تحتفظ بها والدته وتغسلها بدموعها كلما داهمها الشوق واستبد بها ألم الفراق.
تكبر معاناة الطفل سليم يوما بعد آخر وينمو إحساسه باليتم مع نمو جسمه، وتتجلى تفاصيل مأساته كلما شاهد آباء يداعبون أبناءهم ويصحبونهم معهم إلى السوق أو إلى المسجد ما يدفعه لتكرار سؤاله الحائر عن سر غياب أبيه وموعد عودته؟! فلا تجيبه غير دموع الأم وصدى أسئلته في حناجر أخوته الذين يقاسمونه الوجع وذات الأسئلة الحائرة؛ فأخته الكبيرة حماس تعيش حالة نفسية سيئة بسبب تعلقها بوالدها وحبها الشديد له وحرمانها منه نتيجة اختطافه، لتنعكس تأثيرات هذه الحالة على مستواها الدراسي وضعف إقبالها على الطعام والشراب، ولا تبدو بقية أخواته أحسن حالا من حماس الكبيرة وسليم الصغير.
تنتظر أسرة سليم خبراً سعيداً وتتسابق لفتح الباب كلما سمعت طرقة أو صوت وتتعلق أنظارها بقارعة الطريق عسى أن يعود الأب بعد غياب فتعود معه الابتسامة ويضج البيت بالضحكات التي غابت بغيابه الطويل، وتتمنى سرعة إطلاق سراحه أو معرفة مصيره لينكشف الغم الذي خيم على منزلهم منذ خروجه من البيت.
لا يبدو سليم وإخوانه استثناء بين الأطفال المحرومين من آبائهم المختطفين ولا تبدو أسرتهم حالة فريدة، بل هي حالة من آلاف الحالات التي عاشت مأساة غياب العائل المختطف، ما أحال حياة تلك الأسر إلى انتظار لا ينتهي وحزن لا ينقطع وترقب لغائب لا يدرون متى يصل؛ فحالة الحرب الطويلة والصراع الممتد لسنوات وانتهاكات الأطراف المتصارعة في اليمن، ملأت السجون بالمدنيين الذين تم اختطافهم من بيوتهم ومقار أعمالهم ووظائفهم وصنعت الحزن والمعاناة في كل بيت غاب عائله خلف قضبان سجونها.
تؤكد مسؤولة الرصد في رابطة أمهات المختطفين ألفت الرفاعي أن الوضع الإنساني للأسر التي غاب عائلها المختطف خلف القضبان يزداد سوءا كلما طالت فترة الاختطاف وامتدت فترة الغياب، كما تؤكد على أن لا انفراجه قريبة تلوح في هذا الملف الإنساني المظلم حتى مع خفوت صوت السلاح وهدوء المعركة العسكرية لأكثر من عامين، فلايزال 420 مدنيا مختطفين بينهم نساء بالإضافة لـ 73 مخفيا قسريا بحسب الرفاعي.
لا تنحصر تداعيات هذه المشكلة المتفاقمة في خلق معاناة مستمرة للمختطفين وحسب، بل إن تداعياتها تطال مئات الأسر التي تعيش حياة صعبة يتجاذبها الخوف والرجاء، إلى جانب آلاف الأطفال الذين لم يشتركوا في الحرب ولم يكونوا سبباً في إشعالها لكنهم يتحملون تبعاتها ويدفعون ضريبتها الفادحة دون ذنب غير أنهم شهدوا زمناً لا مجال فيه للطفولة الآمنة ولا متسع فيه للفرح.
سليم وأسرته ليسوا استثناءً في هذه الحرب الطويلة، هم جزء من آلاف الأسر التي تعاني من غياب العائل المختطف. الحرب والصراعات ملأت السجون بالمدنيين الأبرياء وخلقت حزناً ومعاناة في كل بيت، الأطفال الذين لم يكونوا جزءاً من الحرب، يدفعون ثمنها دون ذنب، وقصة سليم هي صرخة لكل طفل يحلم بعودة أبيه، وهي دعوة للسلام والأمان الذي يستحقه كل طفل.